كلام لم يشهد الثورة
في الجزء الثاني من كتابه شخصية مصر
دراسة في عبقرية المكان
طبعة دار الهلال ص594
وبعد تحليله لشخصية مصر الإجتماعية
تحت عنوان سلم المسؤلية يقول د جمال حمدان
أين الحقيقة العلمية الآن في هذا كله؟
حسنا آفة مصر ابتداء , اثنتان الطغاة في الداخل والغزاة من الخارج,الديكتاتورية في الداخل والاستعمار من الخارج , هاتان هما نقطتا الضعف الأساسيتان في شخصية مصر, ولا نقول النقطتين السوداويين في الشخصية المصرية, وهما قد تبدوان للوهلة الأولى شيئين منفصلين, ولكن الحقيقة أنهما جانبان لشيء واحد, والعلاقة بينهما مباشرة هي علاقة السبب والنتيجة, فنحن كشعب نخضع بانتظام لحكامنا الطغاة, وحكامنا يركعون بسهولة للأجانب الغزاة
ومن جانبنا كموطنين, فقد درجنا تقليديا على أن نبرئ ساحتنا كشعب من مسئولية هذا الوقر المزدوج القاصم لظهورنا, بمقولة أننا ببساطة شعب مغلوب على أمره مفترى عليه , وأن الفاعل المباشر هو الطغيان والمجرم الأكبر هو الاستعمار, ومن جانبه, فإن الطغيان الداخلي بدوره يزيح المسؤولية عن كاهله مسارعا, بكل ترحيب, بإلقائها على عاتق الاستعمار الإثم...الخ
والاستعمار ولاشك آفة وأفعى , احتلال وطغيان معا فى أن واحد, إلا أنه ليس رأس الأفعى ولا الآفة الوحيدة, كما يروج بعض السطحيين ومنظري عملاء الطغيان, والحقيقة أننا أسرفنا على أنفسنا في اتخاذ الاستعمار –كمشجب- نعلق عليه كل مآسينا وعيوبنا, ومشاكلنا سياسية وغير سياسية, أولا لأنه هدف وطني –أو ضد- وطني—سهل مباشر مشروع لا شبهة في عدائه وعدوانيته , وثانيا لأننا لا نكاد نجسر على أن نعلق الجريمة والعقاب في رقبة الطغيان المحلى لأنه الحاكم المالك وظل الله في أرضه أرض مصر...الخ
وبهذا وبذاك اصطنعنا لأنفسنا سلما مريحا ومرضيا – ولكنه كما سنرى مقلوب رأسا على عقب – من المسئولية , قمته الاستعمار , وقاعه الشعب نفسه , يأتي بينهما – على استحياء أحيانا – الطغيان المحلى
غير إن الحقيقة التاريخية التي تثبتها مرارا وتكرارا تجربة ألفي سنة ومازالت مستمرة معنا حتى اليوم , الحقيقة التاريخية هي أن كبرى الآفتين ليست الاستعمار الأجنبي ولكن الطغيان المحلى , ذلك أن الذي مكن للأول غالبا , بل استدعاه واستعداه أحيانا أمنا هو الحكم الداخلي بعجزه عن حماية الوطن فعلا أو بخيانته له علنا ومساومته وتواطؤه مع المستعمر ليحفظ على نفسه عرشه أو مركزه , إن الذي أتاح للاستعمار الخارجي أن يدخل ويبقى في كثير من الحالات بصورة غير مباشرة دائما وبصورة مباشرة أحيانا هو الطغيان الداخلي وحده لا سواه , انه فى كثير من الأحيان ( وجه مصر القبيح ) في الخارج كما فى الداخل تذكر فقد الخديوي توفيق
ليس هذا فحسب , إنما الحقيقة بعد هذا أن مسئولية الطغيان الحاكم تتضاءل بدورها أمام مسئولية الشعب نفسه , الشعب – ولا أوهام في هذا – هو المسؤل الأول والأخير , الأصلي والأصيل , حتما وبالضرورة , فإذا كان الحكم في مصر مأساة أو ملهاة , كارثة أو مهزلة ، فان سببها الشعب وحده نظريا وعمليا , وكم كان الكواكبي صحيحا صادقا حين قال إن مبعث الاستبداد هو غفلة الأمة ,ومرفوض مرفوض هو المنطق الانهزامي المعكوس الذي يعتذر للشعب أو عنه بأنه مغلوب عل أمره لا قدرة له على الثورة ,مكبل أعزل من السلاح...الخ
فالطغيان لا يصنعه الطاغية , وإنما الشعب هو الذي يصنع الطاغية والطغيان معا , والشعب مسؤل عن الطغيان مسئولية الطاغية نفسه وزيادة ,المثل الشعبي المصري نفسه يقول – قال فرعون من الذي فرعنك ؟قال لم أجد من يمنعني – والمثل الانجليزي المعروف يقول – القوة المطلقة مفسدة , كل سلطة فهي مفسده—
All power corrupts
ليست مفسدة فقط , بل مذهبة للعقل أيضا , ويمكن للحاكم من خلالها أحيانا أن يرى كل حق باطلا وكل باطل حقا , وفى كل شيء عكس ما كان يراه من قبل بغيرها—وهذا وذاك جميعا ما عناه الكواكبي بعبارته النافذة الثاقبة – الاستبداد أمر طبيعي في السلطان
ومن هذه الزاوية فان الشعب لا يعفى من اللوم , وليس له إلا أن يلوم نفسه أساسا , فهو الجاني مثلما هو المجني عليه,الفاعل والضحية , ظالم لنفسه كما هو مظلوم بحاكمه بل ولعل الأوضاع السيئة التي يتردى وإليها كل يوم أن تكون العقاب الطبيعي المستحق لتفريطه في حق نفسه وتهاونه في الدفاع عن حريته وكرامته وعزته وسيادته , فالحاكم الرديء الطاغية إنما هو عقاب تلقائي وذاتي لشعبه الذي سمح له بأن يكون ويبقى حاكما – وقديما كان قادة التتار والمغول من عتاة السفاحين والطغاة يتوعدون ضحاياهم بقولهم عن أنفسهم إنهم لعنة الله على الأرض أرسلهم نقمه وعقابا...
أي أن خير عقاب لمصر دائما على ما هي فيه , هو ما هي فيه بالفعل , وكأنها بهذا أيضا تعاقب نفسها بنفسها بانتظام , والحديث يقول –كما تكونوا بول عليكم— بينما يذهب القول الفرنسي المأثور إلى أن –لكل شعب الحكومة التي يستحقها
Les peoples ont les governments quils deservent
وأخيرا وليس آخرا – فقل لي من حاكمك, أقل لك من أنت—قل لي من الحاكم , أقل لك من الشعب
علينا إذن أن نعيد ترتيب أولويات المسئولية : الشعب أولا وكسبب أساسي , الحكم ثانيا وكسب مباشر ثم الاستعمار أخيرا كثالثة الأثافي فقط , أما وقد أصبح هذا الأخير على أية حال من حديث التاريخ , فإن السلم الثلاثي الدرجات يعود فيختزل إلى معادلة ذات حدين وطنيين: الشعب كقطب موجب والحكم كقطب سالب – وليس العكس – وبهذا تتحول القضية إلى مسألة داخلية, مسألة عائلية بحته , وبهذا أيضا يبدو الخطر الحقيقي على مصر وهو ينبع من داخلها , هو مصر نفسها , أكثر من الآخرين أو الغرباء , هو بطش وعجز الحاكم من جانب ورد فعل الشعب أو سلبيته من الجانب الآخر, هو قضية الدكتاتورية ضد الديمقراطية أو باختصار مشكلة نظام الحكم , وذلك هو التحدي الأعظم الذي كان الشعب المصري يواجهه دائما ليثبت نفسه ووجوده وسيادته
الديمقراطية هي الحضارة
والديكتاتورية على المستوى الفردي هي تعبير مباشر وضمني عن النقص , فالحاكم الذى يعانى لأمر ما من مركب نقص شخصي أو فكرى أو عملي ....الخ
يعوض عن هذا النقص بفرض إرادته ومشيئته بالبطش والقهر والتحكم والطغيان ليثبت لنفسه وللآخرين أنه – الرجل القوى لا –الرجل الضعيف— ولا الرجل الصغير—كما يشعر في قرارة نفسه
أما على المستوى الجماعي فإن أصل الاستبداد والديكتاتورية هو بلا ريب التخلف , التخلف الحضاري بعامة , فالديكتاتورية هي نتيجة للتخلف وعلامة عليه , مثلما هي سبب أو مضاعف له أيضا , وكل مجتمع استبدادي سياسيا هو حتما مجتمع متخلف , والمجتمع المتخلف هو لامفر مجتمع استبدادي سياسيا ذلك أن الاستبداد والطغيان من خصائص وطبيعة مرحلة البدائية والطفولة في كل المجتمعات السياسية , وبينما تتناسب الديمقراطية تناسبا طرديا مع درجة التقدم الحضاري , تتناسب الديكتاتورية تناسبا طرديا مع درجة التخلف الحضاري, إن الديمقراطية هي الحضارة والحضارة هي الديمقراطية , بمثل ما أن الديكتاتورية هى التخلف والتخلف هو الدكتاتورية , وما الديكتاتورية في وقتنا هذا إلا الصيغة العصرية من عبودية العصور القديمة , فالفرد والمجتمع تحتها عبد للحاكم في صورة مقنعة أو مبرقعة , مخففة أو ملطفة
والطغيان والديكتاتورية في مصر هي ببساطة بقايا الماضي الطويل المحزن من ناحية والنواتج الطبيعية أو الجانبية لحاضر التخلف من الناحية الأخرى , فإلى جانب ارث الماضي التعيس , يأتي التخلف الحضاري ومعه التخلف الثقافي والفكري فيحكم على الشعب بالتخلف السياسي , حقا قد تكون شعبا عريقا فى التاريخ , ولكنها فى السياسة – كما في الديموغرافيا- حدث فتى للغاية أو صبى يافع .. فلقد يكون المصري شيخ التاريخ وحكيم الحضارة , إلا أنه جديد على كل ما هو جديد في الحضارة العصرية , بما في ذلك السياسة المعاصرة , ولا نقول كما يريدنا البعض أن نقول أقدم شعب تاريخيا ولكنه ليس بشعب سياسيا
لذا فهو من حيث الوعي والنضج السياسي الحديث قد لا يعدو مرحلة الطفولة الجديدة ولا نقول –الطفولة الثانية أو المرحلة البدائية, ودعك تماما من النظرية المزعومة عن الشعب المريض تاريخيا , وهذا ما يفسر كثيرا من مظاهر الشذوذ ولاضطراب التي نلمسها في العلاقة بين الشعب والحاكم , ومن المسلم به أنه كلما زاد ولاء الشعب وخضوعه وإتباعه للحاكم , ظالما كان أو غير ذلك , على خطأ أو صواب , حتى بغير قهر أو بطش , كلما دل ذلك على عدم نضج الشعب وضعفه وسهولة انقياده ولين عريكته , فحجم الحاكم ونفوذه ودوره كلها تتناسب تناسبا عكسيا مع حمية الشعب وصلابته وقوته ومقاومته