عندما أكمل الدكتور الفاضل والجليل عبد الوهاب المسيري رحمه الله "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"، تقدم بإهداء إلى المفكر والأديب والصحفي الأستاذ محمد حسنين هيكل الصديق والمعلم. والدكتور عبد الوهاب المسيرى يعني ما يقول ويدرك دلالته وهناك الكثير من أبناء مصر والوطن العربي يشاركونه هذا الرأي القائم على الاحترام والتقدير للمجهود الإنساني والالتزام المهني الخارق للعادة ورسوخ الموقف واحترام الذات. والإعجاب والاحترام ليسا لهما قيمة إن صدرا عن انبهار فقط فقراءة الأستاذ هيكل تستوجب من القارئ مجهود موازي ينزل الكلمات منازلها ويضع الخطاب في سياقه ويفهم أفق التحيز.
وفي قراءة لموقف الأستاذ محمد حسنين هيكل من الثورة المصرية والعربية نجده متوترا بعض الشيء، فقد علق الأستاذ على الثورة المصرية في بدايتها تعليقات كان لها أثر مهم وإيجابي ومؤيّد بدا فيها لأول مرة يخرج عن تحسبه وتحفظه الذي ألزم بهما نفسه. ولقد كان الزمن سخيا مع الأستاذ كما وصف، ونشهد له - بعد متابعتنا إياه على مدى تاريخه – بأنه تبادل مع الزمن هذا السخاء بدوره في إلزام نفسه بمهنية غاية في الدأب واحترافية غاية في الدقة بحيث أنه يكاد أن يكون صحفي الوثيقة، ولأن الثورة في ذاتها لا توجد لديها وثائق ولا شبكة اتصالات محلية ولا عالمية بل هي مزيج من الفعل التاريخي الذي يرتبط بوجدان الأمة ولا يدبر بليل ولكنه ينطلق كزلزال يحدث أحداثا يؤرخ لها، فلعل الأستاذ غلبه التحسب المهني فآثر الصمت.
وأظن -وليس كل الظن إثم- أن الأستاذ وفي هذا الظرف التاريخي الذي يجوز فيه مالا يجوز في غيره عليه ألا يكتفي بالإشارة عن العبارة وأعتقد أن استئذانه بالانصراف عن الكتابة إلى الكلام منذ عدة سنوات كان قرارا صائبا ولكن يجوز فيه الاستثناء الصائب أيضا لإن الكتابة تختلف عن الكلام وإن كان الكلام وثيقة بأدوات العصر أكثر إنباء من الكتب، إلا أننا نريده أن يخرج عن صمته للكتابة لا للكلام ليكتب موضحا ومفصلا عن موضوع الصندوق الأسود لطائرة النظام الذي أشار إليه في حديثه مع عمرو واكد منذ عدة أسابيع. والصندوق الأسود هو الذي يزود المحققين بالمعلومات المطلوبة بعد تحطم الطائرة لمعرفة أسباب وقوع الكارثة. فبالتأكيد هناك معلومات عن النظام المصري لم يستطع الأستاذ هيكل أن يتعامل معها أو يقترب منها في ظل بطش النظام وبلطجته. وإذا كان الأستاذ استطاع أن يمشى على حد السيف في السنوات الماضية ليقوم بتفكيك وقع كارثة 67على وجدان الأمة ووفى بعهده مع جمال عبد الناصر بقدر الممكن، فعليه الآن أن يكون كما كتب من قبل لمصرلا لعبد الناصر.
إن الصندوق الأسود يتعلق بحقيقة التزامات الدولة المصرية مع قوى الهيمنة في العالم ومنها ما باح به الأستاذ هيكل هو نفسه بخفه وحذر كوجود سفارة صغيرة في مصر لدولة نكرة ترتبط بشركة بلاك وتر المتورطة في العراق وغير ذلك من بعض المعلومات التي نشرها هنا وهناك عن الأمن القومي. فلعلنا إذا كتب الأستاذ هيكل عن الصندوق الأسود للنظام أن نجد تفسيرا مثلا لحادثة السيارة الدبلوماسية البيضاء التي سحقت المواطنين بجوار السفارة الأمريكية في فعل هستيري أثناء الثورة، فماذا كانت تحمل؟ هل كانت تحمل صندوق السفارة الأسود؟ ولماذا سارعت الولايات المتحدة بالإعلان عن سرقة السيارة كحيلة مراهق سرق سيارة والده وارتكب بها حادث؟ أو لعلنا نفهم ترشيح مصر الثورة لمصطفى الفقي كأمين للجامعة العربية فهل هذا الترشيح هدية أم رشوة؟ ولمن؟ ولماذا؟ والأهم من هذا وذاك أنه إذا تناول الأستاذ هيكل مضمون الصندوق قد نستطيع أن نفكك الثورة المضادة المحلية والإقليمية والدولية.
وأخيرا لأستاذنا الكبير هيكل التحية والسلام
وقبل ذلك وبعده الاحترام