Friday, June 29, 2007

بغتة المعنى بين الذاكرة والخاطر




فتنة الحكي

في مساء صيف من أصياف الثمنينات بين الفندق فى مدخل المدينة ومقام السيد أحمد البدوي وصدى إيقاع حدوات الخيل على الأسفلت يدوي
، حكى سائق الحنطور حكاية بين الشعر والنثركان قد سمعها من جدته تحكيها عن جدتها لزبونه المغرم بالحكي وصديقته، تقول الحكاية
مرة ثلاثة ولاد برغتش
اتنين عمي وواحد ما بيشوفش
اللي مابيشوفش لقى ثلاثة خردة
اتنين ممسوحين وواحد مابيروحش
اللي ما بيروحش جاب ثلاث طواجن سمك
اتنين فاضيين وواحد مفهش
اللي مفهش كفى ثلاثة
اتنين غضبوا وواحد مكلش
لم تبارح تلك الحكاية موقعها من الانتباه والتأمل بين الذاكرة والخاطر رغم أنها انتقلت لي شفاهة وعنعنة عن سائق الحنطور عن جدته عن جدتها منذ كانت هناك عملة فى الديار المصرية تسمى عشرين خردة سارية القيمة ولا زلت أشعر بهذا الخدر الذى لف كياني أول مرة سمعتها للحظات على أثر دوي المعنى عندما ينسج اللامعنى على نول الزمن وكأنها عملية انعتاق من أسر الزمن وانشطار في صمدية المكان، لقد انتقلت الحكاية بعدما تعاورها الرواة وقلصت حوافها الأزمنة ومص رحيقها وباء فقدان الخيال المكتسب، ولكن هكذا الحكي/النص المحنك له أحابيله منهاغرامه بالشكل والترتيب، فهناك ظلال لنظام سردي مرتب بصرف النظر عن اللغة والدلالة --- ثلاثة ثم اثنين ثم واحد-- نظام يعمل كحجاب يستبطن السخرية وفى نفس الوقت يحيط باللا جدوى المرصودة والعجز المقيم
اتنين عمي وواحد ما بيشوفش
اتنين ممسوحين وواحد ما بيروحش
اتنين فاضين وواحد مفهش
اتنين غضبوا وواحد مكلش
ليصوغ ذلك نصا حمال أوجه متعدد الحقول منفتح المواسم، يحكي و ينسج أحبولته ويرسم دائرته متهكما على الفعل الذى يحاكي طواحين الهواء باذرا مقدمات عاجزة حاصدا المستحيل ساخرا من اللغة نفسها موقعا النغم فى بحر من الغم ، ثلاثة فاقدين الرؤية يقوم بفرزهم فى مساحة لغوية تختلف فى الشكل والتشكيل وتشترك فى المعنى والتأويل ليقوم بتوظيف الشكل ضد المعنى
اللي مابيشوفش لقى ثلاثة خردة
اللي ما بيروحش جاب ثلاث طواجن سمك
اللي مفهش كفى ثلاثة
وهنا يفسح مبدع النص المجهول للتأويل أحجية فكونه " مابيشوفش" لا يعنى استحالة أن " يلقى " متكأ على رصيد ومدد من المخيال الشعبي عماده أمثال ومأثورات وحكم تمثل بنية وشبكة تحيط بالوعي مثل " تيجي مع العمي طابات" والحظ لما يآتى يخلي الأعمى ساعاتي" و"قيراط حظ ولا فدان شطاره" وأدينى حظ وأرمينى فى البحر- بختك يا أبو بخيت ، لهذا ايضالامانع أن يروح يوما ما اللي ما بيروحش ، مخصبا المعنى لاستيعاب أن يكفي اللي مفهش ، متعمدا الانحياز لللامعنى واللا معقول غير محتاج إلى أن يطلع الشجرة ليأتي ببقرة ، منشىء سردا لايبالي بمآل هذا الحظ الحاضر الغائب الذي يسير فى طريق دائري حابكا نسيج استدارة حكايته ليكورها فتغدوا سردية قابلة للاستمرار لما لانهاية دائرة مع اللغة والمعنى قدر ما تطيق اللغة ويتسع المعنى، ولايخطىء من يصيخ السمع ، أن يرصد صدى " وكأننا يابدرلا رحنا ولا جينا " مدمجا خلاصة سيرة بحجم سيرة بني هلال، وكأنك يأبو زيد ما غزيت، مطاردا بها كل أبو زيد فى أى زمان إلى جانب رصيدا من التناص بحجم اللامبالاة المقيمة
أحيانا يتسرب ضوء هذه الحكاية منعكسا من الذاكرة مباغتا الخاطر، فأعاود التأمل فيها مستحضرا الأثر ومحدقا في المعنى على ضوء ما استحدث من رؤا فتكشف بدورها عن بعد من أبعادها أحيانا أحاول الإضافة بدأ من واللي مكلش--- في ممكنات مختلفة و في رحلات مختلفة ولكن فى نهاية كل رحلة دائما ما أعود وأفكر في هؤلاء الثلاث الذين أبدعهم الراوي ليستنفذوا يومهم في الحصول على طواجن السمك الفارغة ليناموا فى النهاية من غير عشا

7 comments:

قارئة said...

لي عتب عليك-
هل أثقلنا عليك يا سيدي بتعليقاتنا حتى تغلق أبواب الحوار في تدويناتك السابقة؟ حكاياتك عن فلان أثارت عبق حكاياته الشفافة فتحية له أينما كان وسلام له ولرِحابه وسلام لك بعد أن باغتنا بفتح التعليقات كما باغتنا من قبل بغلقها

علان العلانى said...

لعل عتبك محمود عواقبه

العزيزة قارئة
اعتذار مستحق لك ولكل الإعزاء ومن حاول التعليق ،فوجد ما وجدت من خطأ غير متعمد أغلق نظام التعليقات بعد نقلها لنظام يحيل الى البريد اإلكترونى الغيرموجود أساسا، ويبدوا أن عدم الإنتباه لعادت تصاحبنا بأشكال مختلفة من الطفوله له غرماته،لقد كان تفكيك الإلعاب عندي هو لعبة اللعبة،فكانت العربه تتحول الى صندوق فارغ بعد تناثر محتوياتهاالداخلية وهكذا كل ما هو مركب ، ويبدو أننى أثناء عبثى بنظام التشفير للتعليقات حدث ما حدث ولم أنتبه اليه الا صدفه نظرا لمشاغل طارئه وعلى اية حال عندما تتأملى فى التعليقات السابقة قبل عبثى هذا فسوف تكتشفى بسهولة أن الحوار بيني وبين الإعزاء والأخوة هو تواصل حميم أبعد ما يكون عن الثقل بل على العكس فهو اقرب الى البوح والبراح، على اية حال العتب موصول مني لك
فبوست سؤال النوع الأدبي
لم يكن الا هوامش على حوارات بيننا، وهذا البوست كان قبل أن يباغتنى عبث الطفولة المذكور وأنتظرت إضائاتك رغم ما أعلم من مشاغلك ولكن ما لايدرك كله لا يترك جله وفي قادم أن شاء الله سوف تكون تواصلات عن التدوين والحكي التدوينى وسوف تحتاج الى إضائتك أنت والإعزاء الكرام فتقبلوا جميعا أعتذاري ولك التحية والتقدير
وقبل ذلك وبعده الأحترام

مجهول said...

ان كان لقارئه عندك عتاب فعتابي عتابها وأزيد عتابا
سيدي الفاضل المبدع علان
حكاياتك وفلان كانت مجالا ابداعيا لغويا لاتحتاج لتعليق أو اضافة بل هي مدرسة خارج حدود الحكي الملل تجعلني ادخل حالة من نقاء ادبي خالص تختلط فيه السياسة بالادب والحياة بالتاريخ
وها انت تعود لتمارس حكيك الممتع مع ذاكرتك وخواطرك فيما مضي
واعود عاتبا عن صغر حجم خط المدونة ورجائي تكبيره قليلا رحمة بضعاف البصر
وارجو عدم غلق التعليقات كما في حدث في فلان والحكي التدويني ولولا غيابي لفترة كبيرة وانصرافي عن التعليق لكان تعليقي الاول علي حكي عن هوامش تشكلات السؤال الذي استمتعت جدا بقراءته حين عرضه
..........
لك مني التحية الطيبة ودمت بكل خير

مجهول said...

ربما لحداثتي التدوينية لم ادرك فلان الفلاني ولم اسعد واستمتع بتواصله الذي يتحدث كل من قرأ له عنه ولكني اعتقد ان فلان وعلان ان لم يكونا شخصا واحدا فالقاسم المشترك موجود روحيا بين حوارات الخواطر التي ارجو ان تتواصل

علان العلانى said...

لك الود كما ينبغى وترضى، ولا تشفق من زياده العتاب فهو محمود بين الأعزاء، أما عن الغياب والحضور فهما حجاب الوصل بين المتصافين وليس كالتصافى بين مجهول ومجهول ينشدون المعنى متجردين له من الغرض والهوى ويظلهم الاحترام المتبادل ولا يكون هذا إلا فى التدوين.

العزيز مجهول
اعتقدت دائما أن عمق التلقي يكون بالانفتاح على النص الذي يورق المعنى ، كما أن عمق الانتباه يجلي الرؤية فالنص أى نص مرآة لقارئه يعكس رؤيته التى تلائم عدساته المعرفية، فما رصدته فى النص يتلائم مع ما تلامس مع رؤاك الجديرة بما رصدت بصفائها ونقائها

لقد كانت العلاقة بين فلان وعلان علاقة بين فنان وقارىء وهى إن تكن قد انقطعت في مداها الزمني، فهي متواصلة فيما تبقى من أثر فى النصوص مما يغرق الزمن ويفيض فهذا الأثر" بيتولد مع كل شمس" لقد كان لغياب فلان حضورا كثيفا وهكذا يكون الفن من الفنان الحقيقى، أما عن غلق التعليقات فى تدوينة فلان والحكي التدوينى، فقد كان ملفتا لي ملاحظتك الدقيقة وهذا يكون لمن يقرأون بتحديق، لهذا مقدرا لك عمق التلقي والمتابعة والاهتمام أوضح قائلا: كان هذا لأنني قدرت أنه لربما يكون فلانا متابعا لعلان فلم أشأ أن تبدو التدوينة وكأنها نداء لفلان للتواصل فهذا يكون بين المنقطعين، أو للمفتقدين وهذا لا ينطبق على نوع التواصل بيني وبين فلان فقد ذهب فلان مع حكايا فلان وتلك هى حكاية الحكايا، فالصوت والصمت يجاوب بعضهما بعضا كما تخبرنا حكمة التاو.

لك التحية والتقدير
وقبل ذلك وبعده الاحترام

قارئة said...

أعجب ما في هذه القصة تأسيسها بالصورة والصوت لعدم الجدوى، حتي أننا نشعر أننا نسمع ونرى اللاجدوى من خلال بنيةالصور المتتالية التي تجعل للمجاز في هذه القصة الشعبية رتم
the rythm of futility
من خلال توالي صوت الشين: مفهش، مبيشوفش- لاحقة النفي في بعض العاميات العربية- وهي هنا لنفي فائدة جميع المحاولات.
والأعمق من البنية اللغوية هو البنية الفلسفية التي تنسج الاختلاف من ثوب التماثل لنشعر أن المعاناة الشعبية تختلف ظواهرها وتتماثل نتائجها من الجوع والعجز وعدم الفائدة رغم الكدح فتخلخل ثنائية الاختلاف والتماثل ويكون كل منهما اثر للثاني.

تحياتي

علان العلانى said...

العزيزة قارئة

في كثير من الأحيان ينتابني إحساس أن نصوصنا بضع منا يهاجر ليجول في عالم المعنى كعابر سبيل يأخذ ويعطى يندهش بقدر ما يجد من تماس التواصل ويدهش بمقدار ما يحمل من خصوصية الرؤية، وبين تكوّن النص وسقوطه كثمرة ناضجة تكون الكتابة لتنتخب الكلمات وتروض المعنى بالجملة، لقد طالت صحبتى لهذا النص ولكنني لم أشعر في أى وقت يأن ثمرته اكتمل لها النضوج فجانب الشجن فيه يتقنع بقناع من السخرية شديد الكثافة، لقد كان هذا النص يدور في عالم الكلام، له حضوره في المشافهات بيني وبين الآخرين وتراكمت حوله المعاني واختلفت الرؤا ولكنه ظل عصي على الانتقال لعالم الكتابة غير مبارحا لوسع عالم الكلام يحمل فى جوانبه ما يشابه هذا الشىء الذى كان فى نفس سيبويه من حتى، فعلى سبيل المثال مبدع النص ( أو مبدعيه فنص كهذا قد يكون نتاج لتداخل مجموعة من الرواه فى تكوينه) ينشأ زمنا دائريا حاملا مدلولا منسوجا على نول منطق مستغني عن الإقناع بالقناعة بأن النتائج تخضع بالكامل لقدرية تشكلها داخل حالة العجزالذى يوهم بالفعل مداعبا فى ذلك أسطورية المتخيل كواقع في عالم الحكي، وفى ظل ذلك يمرر النص محايدا فى الزمن كشامة تلتقط بنية وتحدق فيها مطمأنا بأن تناغم وغنائية نصه صك حصانته ضد الزوبان، تقول العرب فى أحد أمثالها " العجز ريبة" ويقال أنه أحق مثل ضربته العرب ويعنى أن الإنسان إذا قصد أمرا وجد إليه طريقا لامحالة ، فإن أقر بالعجز على نفسه ففي أمره ريبة، وفي ظلال تلك الريبة تتراكم الظنون لقد حاول صاحب شخصية مصر فى الجزء الثانى فى الفصل العشرون بعنوان من السبق الحضاري الى التخلف ثم فى الفصل الحادى والعشرون بعنوان الوحدة السياسية ثم فى الفصل الذى يليهما أن يرسم معالم تهتك ظلال تلك الريبة وعلى أية حال رغم صعوبة أثر المنطوق به في النص فإن المسكوت عنه فيه هو محاولة النص المجهول تجسيد هذه اللاجدوى نفسها كجدوى يصرخ بها النص كل مرة عندما يبدأ الحكي في النص بفعل الماضي"مرة" ليترك لك أنت المقارنه فى كل مرة بين ولاد البرغتش وولاد بهية في زمن تلقي النص، ساخرا بطرف خفي من الظرف التاريخى.

لك التحية والتقدير
وقبل ذلك وبعده الاحترام